القائمة الرئيسية

الصفحات

الأخبار[LastPost]

تجربتي مع التوبة

تجربتي مع التوبة

الاستقامة صعبة.. الالتزام صعب..الامتثال صعب..وكيف لا وهذا إمام من أئمّة السلف يقول: جاهدت نفسي أربعين سنة حتّى استقامت.. نعم والله الأمر صعب الاّ مايسّره الله تعالى.
سمع أحد السلف رجلا يقول أستغفر الله وأتوب عليه فقال له لقد كذبت, بل قل أستغفر الله اللهم تب عليّ..
أنا لا أنكر أنّ لله رجالا أتقياءا أخفياء, ولكنّها حالات شاذة هنا وهناك..
وقيل: لا تعجب ممّن هلك كيف هلك ولكن العجب كلّ العجب ممّن نجا كيف نجا..
قد لا يهضم الكثير هذا الكلام, لأنّ مفهوم العبادة والامتثال لديهم لا يتعدّى المحافظة على الصلاة..
أنا لا أثبّط من أراد الاستقامة ولكنّي أريد أن يعلم أنّه لابدّ له من إرادة فولاذية.. وأنّ التوبة أمرها عظيم, فهي ليست مجرّد القيام ببعض الشعائر, ولكنّها ثورة هائلة ضدّ النفس والشيطان لا تخمد نيرانها الاّ بعد مجاهدة عظيمة..
اللّهمّ أعنّا على أنفسنا وثبتنا, اللّهمّ اليك نشكو ضعفنا , اللهم اليك نشكو ظلم أنفسنا.. لا حول ولا قوة الا بك..
اللّهمّ لا تكلنا الى أنفسنا طرفة عين..

قصّتي مع التوبة.

النفس كالطفل, ليس لمطالبها نهايـــة.. وكلّما طاوعتها هوت بك في وديان الهلاك وتمرّ السنين وأنت في سكرة الهوى وقد لا تخرج أبدا الاّ أن تتدارك رحمة الله, والعاقل كلّ العاقل هو ذلك الرجل الذي لا يثق في نفسه أبدا ولا يطاوعها فيما تشتهيه حتّى لا تزلّ قدمه فيصعب الصعود وقد يستحيل..

الأمر ليس مقتصرا على اجتناب المحرّمات, بل لابدّ أيضا من اجتناب الشبهات وكثير من المباحات.. فكم من أناس هلكوا حين توسّعوا في المباحات ( فضول الكلام والآكل والشرب والنظر ..).

عزمت ذات يوم على التوبة, والرجوع إلى الله, الرحمن الرحيم, لم يكن الأمر هيّنا.. ولولا حادثة موت صديقي فجأة لما صحوت من سكرتي.. توضّأت وصليت ركعتين وبكيت بين يدي الله ندما بكاء طفل فقد أمّه.. ندمت.. وأقلعت وعزمت عزما أكيدا على أن لا أعود أبدا..
كانت لحظات عجيبة, شعرت فيها من النشوة والانشراح والراحة مالا يوصف بالكلام, بل وتعجّبت في لحظة الصحوة هذه كيف كنت أعصي الله.. أدركت حينها أنّ للشهوات سكرات وغمرات..

صرت أصلّي الفجر في المسجد وكلّ الصلوات, أتحرّى أكل الحلال, أجتنب الغيبة واللغو والنظر إلى المحرّمات..
وضعت أوّل خطوة في طريق التائبين, أشعر أحيانا بالفرحة, والطمأنينة, والانشراح لقربي من الله وتحرّري من طينتي.. وأحيانا أخرى بالكآبة والوحشة لقلّة السالكين ووعورة الطريق, بل ولأنّ نفسي كانت قد ألفت حياة اللهو.. أدركت أنّ النفس كالطفل المتمردّ العنيد, لقد كانت تأبى عليّ أن أحبسها وألجمها والنّاس من حولها منطلقون.. كنت كالسابح عكس التيار.. وهنا تكمن الحكمة الربّانية وتنجلي حقيقة " وحفّت الجنّة بالمكاره" والاّ فكيف يتبيّن الصداق من الكاذب؟.

كنت أصبّرها وأواسيها بقوله تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا" فتستكين وهيهات, فسرعان ماتهيج..
كانت قيود الشهوات والعوائد متينة, لأنّي أحكمت شدّها فيما مضى بالإصرار والتسويف, ومن الصعب التخلّص من حبائلها بسهولة.. وصدق من قال: المجاهد من جاهد نفسه..

وتمرّ الأيام.. أضعف مرّة وأنتصر أخرى , كنت كلّما أضعف أرجع خطوات إلى الوراء وكلّما أثبت أخطو خطوة إلى الأمام, فكم هو سهل الانحدار من أعلى وكم هو صعب الصعود..

كنت كلّما ضعفت, وعدت إلى ماكنت عليه, يهون عليّ ماأرتكبه وأراه صغيرا لسكرة الهوى وكلّما أفقت وفزعت إلى الله أستعظم ما فعلته..

كنت بين مدّ وجذب.. في بحر هائج والأمواج تتقاذفني.. ومن مكائد النفس الأمارة بالسوء, صوت لها خافت بداخلي يهمس: انك تدّعي التوبة لأنك بعيدا عن المحك, فأسمع له وأرحل الى تلك الأماكن لأسقط من جديد في وحل المعاصي حتّى انّه ليخيّل اليّ الشيطان وكأنّه أمامي مستلقيا على ظهره " ميّتا" عليّ من الضحك ..فآه , كم هي صعبة بداية الطريق.. طريق التوبة.. كنت أستعظم وعورة الطريق وطول مسافتها نحو برّ الاستقامة والسكينة والطمأنينة الذي لا يصله الاّ من تجاوز جبال الشهوات وبحر الملذات لقوله تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا..فالإنسان لا يصل إلى درجة الهداية حيث الآمان هناك والطمأنينة الاّ بعد مجاهدة عظيمة, واختبارات عسيرة.. كنت أخاطب نفسي بأنّه ليس لي خيار, فإمّا أن أصبر وأكمل الطريق حتّى نهايته أو أن أستسلم فيكون الهلاك.. وأعتقد أنّه لو لم يكن هناك جنة أو نار لاستسلم الجميع الاّ القليل..

كنت كلّما ضعفت واستسلمت لنفسي شعرت بالخوف والهمّ والجزع, وكلّما انتصرت عليها شعرت بالراحة والهدوء والسكينة..
كنت أحاول جاهدا أن لا أفكّر في شهوات الماضي لتكتمل توبتي, ولكنّي كنت أضعف أمامها أحيانا فتتخمّر تلك الخواطر في رأسي فأعود إليها.. وأنصح كلّ مسلم يريد توبة نصوحا بأن لا يتسامح مع نفسه أبدا في الخواطر الشيطانية, فهي مفتاح الهلاك..

مضيت متعثّر الخطوات.. وأحيانا باكيا أشكو إلى الله ضعف قوّتي وألحّ عليه بأن لا يكلني إلى نفسي..
كنت كلّما أخطوا خطوة أشعر بأنّي أرتق إلى السماء, فأنظر إلى حياتي السالفة من علو, وأكاد أصرخ: يآلله..هل كنت هناك في ذاك المستنقع؟؟ ولكنّ, هيهات للنفس والشيطان أن يتركا السالك, كانت تصادفني مواقفا كنت أتمنّاها وأبذل المال لأجلها ولا أصل إليها, ولكنّي وحين عزمت على المسير إلى الله تيسّرت لي.. انّها الاختبارات تلو الاختبارت, ( ولنبلونّــكم بالخير والشرّ فتنة).. كنت أصارع نفسي لأجل اجتنابها, ولكنّي كنت أضعف أحيانا وأسقط فأرجع إلى الوراء خطوات وخطوات, بل دركات ودركات.. فآه كم هو صعب الارتقاء, وأصعب منه أن تتيسّر لك العزيمة والهمّة من جديد.. فحتّى وان حاول السالك العودة فسوف يشعر بأنّه يكذب, لأنّ حرارة الندم تكون قد خمدت, ولابدّ من جهاد أكبر وقوّة أعظم للعودة إلى ماكان قد وصل إليه..

المهمّ, حاولت أن أعيد الكرّة, ولكنّ وللأسف لم تكن بنفس القوّة التي انطلقت به أوّل مرّة, وهنا لابدّ من وقفة.. يجب على السالك إذا أراد أن يصل أن يحافظ على رصيد ماكسب من مجاهدة والاّ فانّه سوف لن يعوّض مافاته الاّ بعد جهد جهيد وقد لا يتيسّر.. للأسف هي لحظة,قد ترتفع بها, وقد تهوي بها.. والعاقل من حكّم عقله وأبصر بقلبه..

كنت كلّما استسلمت وتسامحت مع نفسي ولو في هفوة صغيرة, تتابعت التنازلات, فصرت أرضى بالصلاة في الصفوف الأخيرة وقد كنت أحزن حين يفوتني فضل الصلاة في الصفّ الأوّل..
صرت لا أبالي إذا رأيت منكرا, وقد كنت حريصا على تغيير ماأستطيع منه..
صرت أتهاون في السنن, وقد كنت أبحث عن كلّ جديد منها لأحييها.. صرت أحرص على القراءة في المنتديات للاستفادة أكثر من حرصي على الكتابة بل قلّما أكتب..
صرت أتصيّد عثرات الغير وقد كنت قد عرفت حقيقة نفسي, فلا أتجرّأ ولا أتسامح مع نفسي لتتطاول على غيري..
وما إن أعقد العزم على العودة إلى جادّة الطريق, حتّى تنفجر بداخلي طاقات وطاقات للحرص على كلّ مايرضي الله ولو صغيرا..
كنت إذا استقمت تغيّرت مفاهيمي نحو كلّ شيء, حتّى لأنّي أبصر الأشياء على حقيقتها.. بل انّي لأقرأ الآية من كتاب الله فيفتح الله لي من أسرارها الشيء العظيم..وما إن أنتكس حتّى يتوقّف فهمي ونظري وتأمّلي عند حدود المعاني السطحية وحسب..

خلاصة القول: لابدّ للمسلم السالك طريق التوبة أن يعلم أنّ الطريق طويل فلا يستعجل الوصول.. ولابدّ أن يعلم أنّ الراحة مستحيلة.. وان أراد من الله أن يبارك في سيره ليصل منازل القوم بيسر أن لا يتسامح مع نفسه وينتكس في منتصف الطريق..لابدّ أن يصبر, ويصابر, ويديم الفكر والتفكّر في العواقب ليأمن شرّ المغريات.. لابدّ أن يدرك فضل ماحقّقه من مجاهدة وأنّ التفريط فيه ضرب من الجنون, قد لا يتيسّر تحصيل ماضيّعه الاّ بعد جهاد أعظم من الجهاد الأوّل, وكلّما تكرّرت الانتكاسات صارت العقبات أعظم وبذل الجهد لتجاوزها أشدّ..

لابدّ من محو ما علق من آثار الذنوب على القلب مهما صغرت دون تسويف حتّى لا تتراكم عليه فتطمسه..
لابدّ من دوام الافتقار إلى الله وعدم الاغترار..
لابدّ من المحافظة على توازن النفس في المواقف الحرجة, في السفر, في كلّ شيء.. فأيّ انفعال ينعكس سلبا على مسيرتك..
لابدّ من إصلاح ماأفسدت بكثرة الاستغفار للتوّ والاّ تعثّرت مسيرتك..

باختصار.. راقب نفسك ( أقوالك, أفعالك,حركاتك, أفكارك, نظراتك..) فكلّها أبوابا يجب أن تغلق في وجه الشيطان حتّى لا ينفذ منها, وأيّ باب فتحته ونفذ الشيطان منه فأسرع بطرده من قلبك بتجديد التوبة ومعالجتها حتّى لا يتمكّن منك..

هذه بداية تجربتي ولا أزعم أنّي قد انتصرت , وعرفت, ووصلت.. بل والله لا زلت أعالج توبتي وكأنّي طفلا يريد أن يصعد جبلا, وعزائي لنفسي هو إيماني بأنّي في الاتّجاه الصحيح , ومسافة الألف ميل تبدأ بخطوة..

والكلام يطول وهو ذو شجون والى الله وحده نشكوا ضعف قوّتنا وقلّة حيلتنا..

تعليقات